فصل: تفسير الآيات (33- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من الدلالات العلمية للآيات الكريمة:

(الطعام) و(الطعم) هو كل ما يؤكل، و(الطعم) تناول الغذاء، و(الطعمة) المأكلة، ويقال: (طعم) (طعما) إذا أكل أو ذاق فهو (طاعم)، و(استطعمه) أي سأله أن يطعمه فأطعمه.
وقد يستعمل الفعل (طعم) في الشراب أيضا لقول الحق تبارك وتعالى على لسان طالوت لجنوده: {... إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} (البقرة: 249).
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفه لماء زمزم «إنه طعام طعم وشفاء سقم.»
ولذلك بدأت هذه المجموعة من الآيات التي تتحدث عن الطعام في سورة عبس بقول الحق تبارك وتعالى: {أنا صببنا الماء صبا}، ومن الثابت علميا أن الماء سابق في وجوده على خلق الحياة لأن الحياة الأرضية التي نعرفها لا تقوم بغير الماء الذي أخرجه ربنا تبارك وتعالى أصلا من داخل الأرض، وصدق الله العظيم إذ يقول:
{والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها}
(النازعات 30 و31).
وعلى الماء قامت حياة كل من النبات والحيوان والإنسان وأعد الله تعالى للإنسان كل صنوف الطعام التي يحتاجها في حياته، ومن هنا كانت الإشارة إليه لينظر إلى طعامه نظر تدبر وتفكر واعتبار.
ثانيا: {أنا صببنا الماء صبا}:
تعتبر دورة الماء حول الأرض من دلالات طلاقة القدرة الإلهية، فقبل إخراج ماء الأرض من داخلها عبر فوهات البراكين، كان الله تعالى قد هيأها سقفا باردا تتكثف عنده وهو الحد العلوي لنطاق الرجع (نطاق التغيرات المناخية) الذي تصل عنده درجة الحرارة فوق خط الاستواء إلى (60) درجة تحت الصفر، ولولا هذه الحقيقة لارتفع بخار الماء المتصاعد من الأرض إلى طبقات الجو العليا وانفلت من نطاق جاذبية الأرض إلى فسحة الكون، ولو حدث ذلك ما كنا ولا كانت الحياة من حولنا على الإطلاق.
وعند وصول بخار الماء المتصاعد من الأرض إلى الحد الأعلى لنطاق الرجع تكثف وعاد إلى الأرض مطرا، وساعد تكرر نزول المطر على تبرد الغلاف الصخري للأرض، كما ساعد على سيلان الماء على سطح الأرض شاقا أودية له على هيئة أعداد من الأنهار والجداول، وعلى تحركه إلى منخفضات الأرض ليملأها بالماء مكونا البحار والمحيطات والبحيرات وغير ذلك من تجمعات الماء على سطح الأرض، وبمجرد تكون ذلك بدأت أشعة الشمس في تبخير هذا الماء ليرتفع على هيئة بخار يعلق بأجزاء من الغلاف الغازي للأرض مكونا السحب التي يتكثف منها الماء ليعود إلى الأرض مطرا، وبردا، وثلجا.
وقد استمرت دورة الماء حول الأرض منذ أن أخرج الله تعالى منها ماءها وسوف تستمر إلى أن يرث الأرض ومن عليها.
وبهذه الدورة المعجزة التي يتحرك بها الماء من غلاف الأرض المائي إلى غلافها الهوائي ليتطهر مما يتجمع فيه من ملوثات، ومواد يذيبها من الغلاف الصخري للأرض، أو تعلق به في أثناء جريانه على سطحها، أو من بقايا بلايين الكائنات الحية التي تحيا وتموت في الأوساط المائية. وتمتد دورة الماء من نحو الكيلو متر الواحد تحت سطح الأرض إلى ارتفاع يقدر بنحو خمسة عشر كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر، فتعمل على تطهير الماء، وتلطيف الجو، وتوفير نسبة معينة من الرطوبة في كل من الغلاف الغازي للأرض وتربتها تحتاج إليه غالبية صور الحياة إن لم تكن جميعها خاصة في المناطق الصحراوية.
وبواسطة هذه الدورة المائية التي استمرت على مدار عمر الأرض المقدر بنحو خمسة بلايين من السنين تمت تسوية سطح الأرض، وشق الفجاج والسبل فيها، كما تم تفتيت الصخور، وتكوين كل من التربة والصخور الرسوبية، وخزن قدر من هذا الماء فيها وفي غيرها من صخور قشرة الأرض، وتكوين أعداد من الصخور الاقتصادية والركازات المعدنية المهمة.
ولولا هذا الإعداد الرباني الدقيق ما أنبتت الأرض، ولا كانت صالحة للعمران، ولذلك يمن علينا ربنا تبارك وتعالى وهو صاحب الفضل والمنة بقوله عز من قائل: {أنا صببنا الماء صبا} أي أنزلنا الغيث من السماء إنزالا، لأن صب الماء هو إراقته من أعلى، والصبيب هو المصبوب من المطر وإن استعمل لغيره من السوائل، فإذا علمنا أن كمية الماء الأرضي تقدر بنحو 1.4 بليون كيلو متر مكعب، وأن من هذه الكمية الهائلة التي أخرجها ربنا تبارك وتعالى لنا من داخل الأرض، يتبخر سنويا 380 ألف كيلو متر مكعب، ثم تعود كلها إلى الأرض مرة أخري مطرا طهورا، يوزعه الله تعالى بعلمه، وحكمته، وقدرته، إذا علمنا ذلك لأدركنا قيمة هذه النعمة الإلهية الكبري التي وصفها الحق تبارك وتعالى بقوله: أنا صببنا الماء صبا، وقوله عز من قائل: {وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا} (الفرقان: 49، 48).
ثالثا: {ثم شققنا الأرض شقا}:
ترد كلمة الأرض في القرآن الكريم بثلاثة معان محددة لتعني كوكب الأرض في مجمله، أو الغلاف الصخري المكون لليابسة التي نحيا عليها، أو قطاع التربة الذي يغطي ذلك الغلاف الصخري في بعض أجزائه، كما هو واضح من الآية الكريمة التي نحن بصددها لقول الحق تبارك وتعالى:
{ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا}
وذلك لأن الحب لا ينبت إلا في التربة، وكذلك الغالبية الساحقة من النباتات.
وتتكون تربة الأرض بالتفاعل المعقد بين أغلفتها الصخرية، والمائية، والهوائية، والحيوية، مما يؤدي إلى التفكك الفيزيائي والتحلل الكيميائي والحيوي لصخور الأرض بواسطة عوامل التعرية المختلفة، وتلعب الكائنات الحية من مثل البكتيريا، والفطريات، والطحالب، وجميع النباتات، وبعض الحيوانات دورا رئيسيا في تكون التربة التي تعتبر مصدر الغذاء والماء لحياة كل النباتات الأرضية، بل لحياة كل من الإنسان والحيوان.
وتتكون التربة الأرضية في قطاعها العلوي أساسا من معادن الصلصال، وحبات الرمل، وأكاسيد الحديد، وكربونات كل من الكالسيوم والمغنيسيوم، وإن كانت أنواع التربة تتعدد تعددا هائلا بتعدد أنواع الصخور التي تنشأ عنها، والظروف الطبيعية والكيميائية التي تتعرض لها، وأنواع الكائنات الحية التي تزخر بها، والتي تلعب أدوارا رئيسية في إعدادها.
وعلى الرغم من ذلك تبقي المعادن الصلصالية قاسما مشتركا في معظم أنواع تربة الأرض، والمعادن الصلصالية لها شراهة شديدة للماء، فإذا وصلها امتصته بسرعة فتميأت مما يؤدي إلى زيادة حجمها فتهتز وتربو إلى أعلى حتي ترق رقة شديدة، فتنشق لتفسح طريقا آمنا لسويقة (ريشة) النبتة المنبثقة من داخل البذرة النابتة المدفونة في التربة، ومن هنا كانت تلك الإشارة القرآنية المعجزة في هذه السورة المباركة التي جمعت بين صب الماء، وشق الأرض، والإنبات في تسلسل دقيق معجز يقول فيه ربنا تبارك وتعالى:
{أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا} (عبس: 25- 27).
ومن أسباب اهتزاز التربة وارتفاعها حتي تنشق دقة حجم حبيبات المعادن الصلصالية (أقل من 0.004 من الملليمتر) التي تتحول إلى الحالة الغروية بمجرد اختلاط الماء بها بكمية كافية، وهي حالة تتدافع فيها جسيمات المادة بقوة وأقدار غير متساوية في جميع الاتجاهات، وعلى كل المستويات في حركة دائبة تؤدي إلى اهتزاز التربة وانتفاخها وانتفاضها بشدة حتي تنشق، وكلما زادت كمية الماء المختلط بالتربة زاد اهتزازها وارتفاعها وسارع ذلك في تشققها بإذن الله تعالى.
رابعا: {فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم}:
هذا التسلسل المعجز في ست آيات قصار يكاد يشمل جميع النباتات التي تصلح طعاما ومتاعا لكل من الإنسان وأنعامه..
(1) فالكلمة: {حبا} تشمل جميع أنواع الحبوب (من ذوات الفلقة الواحدة) من مثل القمح، والشعير، والشوفان، والذرة، والأرز، وغيرها، وتنطوي هذه النباتات في عائلة واحدة.
تعتبر من أكثر النباتات نجاحا لأنها تسود مساحات من اليابسة أكثر من أية نباتات أخري، وتعرف هذه العائلة باسم عائلة النجيليات (العائلة النجيلية) وتشمل نحو سبعة آلاف نوع من أنواع النباتات، وهي أهم عائلة نباتية بالنسبة لكل من الإنسان والحيوانات آكلة الأعشاب كالأنعام، لأن جميع أنواع الحبوب اللازمة لحياة كل منهما تنطوي في هذه العائلة، وقد أنبتها الله سبحانه وتعالى قبل خلق الإنسان بملايين السنين، وأخذ الإنسان في زراعتها منذ أيام ما قبل التاريخ.
وبالإضافة إلى هذه المحاصيل المهمة من الحبوب تضم عائلة النجيليات محاصيل أخري مهمة من مثل قصب السكر، وأعشاب المراعي، ومنها الحولية والمعمرة، كما تضم بعض النباتات الخشبية من مثل نبات الخيزران.
(2) والتعبير القرآني: {وعنبا وقضبا} أيضا تعبير معجز لأن (العنب) يشير إلى رتبة كاملة من نباتات الثمار المهمة هي رتبة العنابيات، وتشمل عائلتين مهمتين هما: عائلة العناب وتشمل (45) جنسا، و(550) نوعا من أنواع النباتات واسعة الانتشار من مثل العناب، والنبق، وعائلة الأعناب، وتشمل (11) جنسا، و(600) نوع من أنواع العنب وهو واحد من أهم المحاصيل النباتية.
أما (القضب) و(القضبة) فهو الرطب من ثمار النبات، و(القضب) أصلا هو القطع، و(اقتضبه) أي اقتطعه، ولذا استعير (القضب) لما يقضب من النبات ليأكله الإنسان غضا طريا كالبقول التي تقطف ثمارها فينبت مكانها، أو تقطف النبتة فينبت أصلها، وفي ذلك إشارة إلى العائلة البقولية، وهي ثاني أكبر عائلة نباتية بذرية يعتمد عليها كل من الإنسان وأنعامه في طعامه، بعد العائلة النجيلية، وهي عائلة نباتاتها منتشرة في جميع أنحاء العالم، وتشمل نحو (600) جنس، و(12.000) نوع من أنواع النباتات ذات الفلقتين وتشمل فيما تشمل: الفول، العدس، الحمص، الفاصوليا، اللوبيا، البازلاء، فول الصويا، الفول السوداني، الترمس، الحلبة، الخروب، التمر هندي، وغيرها، وكلها من ذات الثمار القرنية، ولذلك تعرف أحيانا باسم العائلة القرنية.
كذلك تشمل هذه العائلة نبات البرسيم الحجازي الذي يعتبر علفا رئيسيا للحيوانات آكلة الأعشاب كالأنعام، وغيرها من أعشاب المراعي والأعلاف، ونباتات الزهور، والنباتات الطبية.
(3) والتعبير القرآني: {وزيتونا ونخلا}: يشير إلى عائلتين من أهم العائلات النباتية هما العائلة الزيتونية، والعائلة النخيلية، والأولي تشمل (22) جنسا، و(500) نوع من أنواع الأشجار الزيتونية وهي أشجار معمرة، فأشجار الزيتون تعيش لأكثر من ألفي سنة، وهي شجرة مباركة كما وصفها القرآن الكريم ونعتتها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما العائلة النخيلية فتشمل (200) جنس، وأكثر من أربعة آلاف نوع من أنواع النخيل، والنخيل من أكثر النباتات احتمالا للجفاف والملوحة، وتنمو في المناطق الحارة الجافة والمعتدلة، وثمارها ومنتجاتها تعتبر من أهم المصادر النباتية التي اعتمد عليها الإنسان في حياته منذ وطئت قدماه هذه الأرض.
(4) والتعبير القرآني: {حدائق غلبا} أي حدائق عظاما، غليظة الأشجار ملتفة الأغصان، لتشمل الغالبية الباقية من أنواع النباتات، خاصة نباتات الظل، والزينة، والأخشاب، كما تشمل الكثير من نباتات الثمار المختلفة التي لا تنضوي في المجموعات السابقة.
(5) أما التعبير القرآني: {وفاكهة وأبا} فيركز على نباتات الفاكهة المختلفة التي لا تحتويها المجموعات السابقة من مثل العائلات التوتية (وتشمل التين، والجميز، والتوت، وغيرها)، والوردية (وتشمل المشمش، والخوخ، والبرقوق، والكريز، واللوز في تحت العائلة المشمشية، والتفاح، والكمثري، والبشملة، والسفرجل في تحت العائلة التفاحية) والسذبية (عائلة الموالح) وغيرها.
أما (الأب) فهو الكلأ والمرعي، وما تأكله البهائم كالأنعام من العشب، وغيره من أنواع النبات رطبا كان أو يابسا (مثل التبن).
وهكذا نري في هذا التسلسل المعجز لخمس آيات قصار لا تشغل أكثر من سطرين استعراضا لأهم النباتات التي تشكل الطعام الرئيسي لكل من الإنسان وأنعامه، ولذا ختمت بقول الحق تبارك وتعالى: {متاعا لكم ولأنعامكم}.
وعلوم تقسيم الحياة بصفة عامة، وعلم تقسيم النبات بصفة خاصة هي علوم مستحدثة في تاريخ الإنسان، بدأت مع منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، ولم تتبلور إلا في أواخر القرن العشرين. واستعراض الآيات التي نحن بصددها لأهم مجموعات النبات في طعام كل من الإنسان وأنعامه بهذه البساطة، والدقة، والشمول، والإحاطة، لمما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، ويشهد بالنبوة والرسالة للرسول الخاتم الذي تلقاه، فصلي الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.. والحمد لله رب العالمين. اهـ..

.تفسير الآيات (33- 42):

قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يوم يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امرئ مِنْهُمْ يومئِذٍ شَأْنٌ يغنيه (37) وُجُوهٌ يومئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يومئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر عجائب الصنع في الطعام، وكان ذلك يقطف فيعود لاسيما المرعى فإنه يأتي عليه الخريف فينشف ثم يتحطم من الرياح ويتفرق في الأرض ثم يصير تراباً ثم يبعث الله المطر فيجمعه من الأرض بعد أن صار تراباً ثم ينبته كما كان، وكان ذلك مثل إحياء الموتى سواء، فتحقق لذلك ما تقدم من أمر الإنشار بعد الإقبار، وكان ذلك أيضاً مذكراً بأمر أبينا آدم عليه الصلاة والسلام لما أمره الله بالأكل من الجنة إلا من الشجرة التي نهاه عنها، فلما أكل منها أخرجه من الجنة فسجنه في دار ليست بجنة ولا نار ولا غيرهما بل هي من ممتزج الدارين وكالبرزخ بينهما، فيها ما يذكر بهذه وما يذكر بتلك، وفيها أمثلة الموجدات كلها، قال مسبباً عما ثبت به الإحياء للبعث إلى المحشر معبراً بأداة التحقق لأن الساعة ممن لابد منه ولا محيد عنه لأنها سر الكون فإن فيها حساب الذين استخلفوا في هذا الوجود وأفيضت عليهم النعم التي أودعها فيه، وأشار إلى أنهم عاجزون عن القيام بشكرها، وكثير منهم- بل أكثرهم- زاد على ذلك بكفرها، فأوجب ذلك- ولابد- حسابهم على ما فعلوا فيما استخلفوا فيه واسترعوه كما هي عادة كل مسترع ومستخلف: {فإذا جاءت} أي كانت ووجدت لأن كل ما هو كائن كأنه لاقيك وجاء إليك {الصآخة} أي الصرخة العظيمة التي يبالغ في إسماع الأسماع بها حتى تكاد تصمها لشدتها، وكأنها تطعن فيها لقوة وقعتها وعظيم وجبتها، وتضطر الآذان إلى أن تصيخ إليها أي تسمع، وهي من أسماء القيامة، وأصل الصخ: الضرب بشيء صلب على مصمت.
ولما كان وصفها بما يقع فيها أهيب، قال مبدلاً من (إذا) ما يدل على جوابها من نحو: اشتغل كل بنفسه ولم يكن عنده فراغ ما لغيره: {يوم يفر المرء} أي الذي هو أعظم الخلق مروءة: ولما كان السياق للفرار، قدم أدناهم رتبة في الحب والذب فأدناهم على سبيل الترقي، وأخر الأوجب في ذلك فالأوجب بخلاف ما في (سأل) كما مضى فقال: {من أخيه} لأنه يألفه صغيراً وقد يركن إليه كبيراً مع طول الصحابة وشدة القرب في القرابة فيكون عنده في غاية العزة.
ولما كانت الأم مشاركة له في الإلف، ويلزم من حمايتها أكثر مما يلزم الأخ وهو لها آلف وإليها أحنّ وعليها أرق وأعطف قال: {وأمه} ولما كان الأب أعظم منها في الإلف لأنه أقرب في النوع وللولد عليه من العاطفة لما له من مزيد النفع أكثر ممن قبله قال: {وأبيه} ولما كانت الزوجة التي هي أهل لأن تصحب ألصق بالفؤاد وأعرق في الوداد، وكان الإنسان أذب عنها عند الاشتداد، قال: {وصاحبته} ولعله أفردها إشارة إلى أنها عنده في الدرجة العليا من المودة بحيث لا يألف غيرها.
ولما كان للوالد إلى الولد من المحبة والعاطفة والإباحة- بالسر والمشاورة في الأمر ما ليس لغيره، ولذلك يضيع عليه رزقه وعمره قال: {وبنيه} وإن اجتمع فيها الصغير الذي هو عليه أشفق والكبير الذي هو في قلبه أجل وفي عينه أنبل ومن بينهما من الذكر والأنثى.
ولما ذكر فراره الذي منعه قراره، علله فقال: {لكل امرئ} أي وإن كان أعظم الناس مروءة {منهم يومئذ} أي إذ تكون هذه الدواهي العظام والشدائد والآلام {شأن} أي أمر بليغ عظيم {يغنيه} أي يكفيه- في الاهتمام بحيث لا يدع له حصة يمكنه صرفها إلى غيره ويوجب له لزوم المغنى، وهو المنزل- الذي يرضيه مع أنه يعلم أنه يتبعونه ويخاف أن يطالبوه لما هم فيه من الكرب بما لعله قصر فيه من حقوقهم.
ولما ذكر اليوم، قسم أهله إلى القسمين المقصودين بالتذكرة أول السورة، فقال دالاًّ على البواطن بأشرف الظواهر: {وجوه يومئذ} أي إذ كان ما تقدم من الفرار وغيره {مسفرة} أي بيض مضيئة بالإشراق والاستنارة، من أسفر الصبح- إذا أشرق واستنار {ضاحكة} لما علمت من سعادتها {مستبشرة} أي طالبة للبشر وهو تغير البشرة من السرور وموجدة لذلك، وهي بيضاء نيره بما يرى من تبشير الملائكة، وذلك بما كانت فيه في الدنيا من عبوس الوجوه وتغيرها وشحوبها من خشية الله تعالى وما يظهر من جلاله في الساعة كابن أم مكتوم رضي الله عنه الذي كان يحمله خوف الساعة على حمل الراية في أشد الحروب كيوم القادسية والثبات بها حتى يكون كالعمود، لا يزول عن مركزه أصلاً ليرضي المعبود.
ولما ذكر أهل السعادة الذين هم المقبلون على الخير المصابون في أنفسهم بما يكفر سيئاتهم ويعلي درجاتهم، ذكر أضدادهم فقال تعالى: {ووجوه} وأكد بإعادة الظرف لإزالة الشبهة فقال: {يومئذ} أي إذ وجد ما ذكر {عليها} أي ملاصقة لها مع الغلبة والعلو {غبرة} أي اربداد وكأنه بحيث يصير كأنه قد علاها غبار وهي عابسة حذرة وجلة منذعرة، وذلك مما يلحقها من المشقات وكثرة الزحام مع رعب الفؤاد، وتذكر ما هي صائرة إليه من الأنكاد الشداد {ترهقها} أي تغشاها وتقهرها وتعلوها {قترة} أي كدورة وسواد وظلمة ضد الإسفار فهي باكية عابسة مما كانت فيه في الدنيا من الفرح واللعب والضحك والأمن من العذاب، فالآية من الاحتباك: ذكر الإسفار والبشر أولاً يدل على الخوف والذعر ثانياً، وذكر الغبرة ثانياً يدل عل البياص والنور أولاً، وسر ذلك أنه ذكر دليل الراحة ودليل التعب لظهورهما ترغيباً وترهيباً.
ولما كان هذا الأمر هائلاً، وكان الفاجر، لما علا قلبه من الرين وله من القساوة، قليل الخوف من الأجل عديم الفكر فيما يأتي به غد لما غلب عليه من الشهوتين: السبيعة والبهيمية بخلاف المتقي في كل ذلك، استأنف الإخبار زيادة في التهويل فقال: {أولئك} أي البعداء البغضاء {هم} أي خاصة لا غيرهم {الكفرة} أي الذين ستروا دلائل إلإيمان {الفجرة} أي الذين خرجوا عن دائرة الشرع خروجاً فاحشاً حتى كانوا عريقين في ذلك الكفر والفجور، وهم في الأغلب المترفون الذين يحملهم غناهم على التكبر والأشر والبطر، فلجمعهم بين الكفر والفجور جمع لهم بين الغبرة والقترة، كما يكون للزنوج من البقاعة إذا علا وجوههم غبار ووسخ، فقد عاد آخرها على أولها فيمن يستحق الإعراض عنه ومن يستحق الإقبال عليه- والله الهادي. اهـ.